| ]




إن الحاوي الذي يمزق المنديل إلى عشرات القصاصات ثم يعيده إلى صورته الأولى أمام عينيك قد يدهشك .. و لكن الحياة تقدم كل يوم في بساطة و تواضع ما هو أكثر إعجاز من هذه اللعبة .

إن الإسفنج الذي تمزقه الدوامات البحرية ، و الأسماك المتوحشة ألف قطعة و قطعة .. ما تلبث كل قطعة فيه أن تسبح مع الماء و تنمو إسفنجاً جديداً كاملاً .

و أنت لن تستطيع أن تتصور إلى أي مدى يستطيع حيوان الإسفنج أن يتحمل التمزق .. و لكن البروفسور و يلسون .. أستاذ علم الحيوان قام بإجراء تجربة بديعة .. مزق فيها الإسفنج فتافيت صغيرة بإبرة ثم طرقه بشدة بمطرقة ثم طحنه و هرسه و عصره في قماش دقيق الثقوب .. ثقوبه أدق من ثقوب المنخل .. و من النخالة التي سقطت بعد هذا التمزق و الهرس و الطحن الرهيب استطاع الإسفنج أن يتخلق من جديد .. من كل نقطة .. و من كل ذرة .. و ينمو إلى صورته السوية .. و كأن لا شيء حدث ..

هذه حقيقة و لكنها في ذات الوقت معجزة أكثر إعجازاً من سحر الساحر الذي مزق المنديل ألف قطعة ثم أعاده منديلاً من جديد .

و قد كنت دائماً أشعر بأن في طبيعة الحياة على بساطتها سراً عميقاً و لغزاً معجزاً .. يستحق التأمل الطويل و البحث المتصل .

كانت الحياة دائماً تشغلني ..

هذه القدرة الخارقة في الحياة على أن تعبيء نفسها و تحارب قوى التمزق و تحافظ على تماسكها ووحدتها في مواجهة ظروف تبعثرها و تشتتها في كل لحظة .. هذه القدرة تدلني على أن جوهر الحياة واحد بالرغم من تعدد الكائنات الحية و تنوعها .. جوهر واحد لا يقبل التقسيم و لا التجزئة .. جوهر مبثوث في كل جزء و في كل بضعة بروتوبلازم .. بحيث يصبح كل جزء قادراً على أن يصبح كاملاً .

إن السكين التي قطعت الإسفنج لم تستطع أن تقطع جوهر الحياة فيه ، لأن الحياة شيء بسيط . كالصفة منبثة في كل الأجزاء الحية .. شيء لا يقبل القسمة .

و ما حدث في الإسفنج يحدث في كثير من النباتات .. كثير من النباتات تنمو بالتقليم .. أى قلامة تقطع منها و تزرع .. تنمو و تستحدث لها بنية جديدة و تعيد تخليق كل الأجزاء التي تنقصها .. و في هذا ما يدل على أن كل جزء من النبات يحتوي بطريقة ما على كل تفاصيل النبات مطبوعة في باطنه تماماً كما يحتوي الجنين على صورة الإنسان بكامل أعضائه باطنة في خلاياه .

إذا قطعت قلامة من شجرة صفصاف وزرعتها ، فإنها ما تلبث أن تنمو شجرة كاملة .. يخرج الجذر .. من طرف القلامة السفلي و تخرج الفروع من الطرف العلوي .. و إذا قلبت القلامة عاليها سافلها .. خرجت الجذور من تحت و الفروع من فوق .. و هذا يدل على أن كل نقطة في نسيج القلامة فيها إمكانية النمو إلى الجذور و إمكانية النمو إلى فروع في نفس الوقت .. و النبات يختار حسب وضعه .. الجزء الذي يسفل تخرج منه الجذور و الذي يعلو تخرج منه الفروع .

و هذا يدل على أن جوهر الحياة جامع لكل الإمكانيات .. إمكانيات الفروع و إمكانيات الجذور في نفس الوقت و أنه لا يقبل التجزئة .. و أنك مهما جزأت النسيج الحي سيظل كل جزء جامعاً في وحدته لكل إمكانيات المخلوق الحي ..

و لهذا السبب كانت الحياة في مستوياتها الدنيا غير فانية .. كانت الميكروبات لا تموت .. كانت حينما تبلغ غاية النضج .. تنقسم ، فيصبح كل قسم قادراً على النمو و النضج بذاته .. ثم يعود ، فينقسم .. فيصبح الواحد اثنين ثم أربعة ثم ثمانية ثم ستة عشر .. إلخ .. دون أن تنطفيء الحياة بشيخوخة أحدها .

و لم تظهر الشيخوخة و الموت إلّا بظهور الأنواع الراقية المعقدة من الحيوان و النبات و بظهور الخلايا الجنسية المعقدة المتخصصة في التكاثر و نقل الحياة من جيل إلى جيل .

الموت كان ضريبة التخصص .. تخصص خلايا بعينها في نقل الحياة .. و أصبح دور الكائن الحي ينتهي عند تكوين هذه الخلايا الجنسية و نقلها بالتلاقح و التزاوج حيث يتم إنجاب أجيال جديدة .. ثم يموت و تنتهى حياته


د. مصطفى محمود
من كتاب لغز الحياة